حياة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها العامة والخاصة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا ِِإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
قد دأب بعض أهل الهوى والفكر المنحرف، والدخيل على ديننا الحنيف للنيل من الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - عن طريق أزواجه الأطهار - رضوان الله عليهن - عموما وعائشة - رضي الله عنها - على وجه الخصوص لمكانتها العلمية في ديننا الحنيف.
وفي هذا المبحث سوف أتحدث عن حياة أم المؤمنين العامة والخاصة ومكانتها العلمية الفريدة لأنها من أولي اللواتي حملن لنا هذا الدين القويم، فكانت لها الفضل العظيم - رضوان الله عليها - في نقل وصيانة هذا الدين إلينا كما كانت لها فضل نشر نور الإسلام، وعلومه.
تلكم أم المؤمنين الصديقة زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة من أكثر الصحابة رواية للحديث النبوي الشريف وأشدهم حفظا له.
حياة أم المؤمنين عائشة ملكة العفاف الخاصة والعامة
حياة أم المؤمنين عائشة ملكة العفاف الخاصة.
وفيما يلي أبين بعض الجوانب من حياة أم المؤمنين الخاصة لكي يعرف ويلم القارئ الكريم بما يحب أن يعرف من حياة هؤلاء الأخيار الذين رضي الله عنهن ورضوا عنه، فيتلمس علمهن، وحبهن ابتغاء لمرضاة الله سبحانه وتعالى.
من هي عائشة:
هي الصديقة بنت الصديق أبي بكر، عبد الله بن أبي قحافة ، القرشية، التيمية، المكية.
أمها:
أم رومان الكنانية بنت عامر بن عويمر، بن عبد شمس، بن عتاب، بن أذينة بن سبيع، بن دهمان بن الحارث، بن غنم بن مالك بن كنانة[1].
ألقاب عائشة - رضي الله عنها:
ظفرت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بألقاب لم تظفر بها غيرها من أمهات المؤمنين - رضوان الله عليهن أجمعين - منها:
1- عائش: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينادي عائشة - رضي الله تعالى عنها - بقوله: (يا عائش) [2] تحبباً، وتحسناً لمكانتها المميزة في قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففي الصحيحين عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عائش! هذا جبريل يقرئك السلام. قلت وعليك السلام ورحمة الله وبركاته) [3].
2- حميراء: وكذلك روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نادى حبيبته عائشة - رضي الله عنها - بالحميراء، تحببا إليها وملاطفة لها ومن ذلك ما رواه عدد من العلماء من رواية أم المؤمنين عائشة، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: دخل الحبشة المسجد يلعبون، فقال لي: يا حميراء أتحبين أن تنظري إليهم فقلت: "نعم، فقام بالباب وجئته فوضعت ذقني على عاتقه فأسندت وجهي إلى خده" قالت: "ومن قولهم يومئذ أبا القاسم طيبا" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حسبك" فقلت: يا رسول الله لا تعجل، فقام لي ثم قال: "حسبك" فقلت: "لا تعجل يا رسول الله" قالت: "وما لي حب النظر إليهم، ولكني أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي ومكاني منه" قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: يا حميراء! أتحبين أن تنظُري إليهم؟! يعني: إلى لعب الحبشة ورقصهم في المسجد)[4]. ولفظ حميراء معناه البيضاء، لأن أم المؤمنين كانت بيضاء رضي الله عنها. والعرب تطلق على الأبيض أحمر لغلبة السمرة على لون العرب[5]. والعرب تقول: امرأة حمراء أي بيضاء. وسئل ثعلب: لم خص الأحمر دون الأبيض؟ فقال: (لأن العرب لا تقول رجل أبيض من بياض اللون، إنما الأبيض عندهم الطاهر النقي من العيوب، فإذا أرادوا الأبيض من اللون قالوا أحمر)[6].
3- ابنة الصديق: كثيرًا ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يناديها بابنة الصديق تحببًا وإكراماً لابنة الصديق لما لها وأبيها من مكانة عظيمة في قلبه وقلب كل مؤمن بالله ورسوله. من ذلك ما روته عائشة - أم المؤمنين رضي الله عنها - قالت: قلت يا رسول الله ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾ [المؤمنون: 60] هوالذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق، ويخاف أن لا يقبل منه[7].
4- ابنة أبي بكر: كذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينادي أم المؤمنين بابنة أبي بكر لبيان عظيم مكانتها ومكانة أبيها أحب الناس إلى قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك ما رواه الإمام مسلم - رحمه الله تعالى - في صحيحه، أن عائشة، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: أرسل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذنت عليه وهو مضطجع معي في مرطي، فأذن لها، فقالت: يا رسول الله إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، وأنا ساكتة، قالت فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "أي بنية ألست تحبين ما أحب؟" فقالت: بلى، قال "فأحبي هذه" قالت: فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرجعت إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرتهن بالذي قالت، وبالذي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلن لها: ما نراك أغنيت عنا من شيء، فارجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولي له: إن أزواجك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة، فقالت فاطمة: والله لا أكلمه فيها أبدا، قالت عائشة، فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أر امرأة قط خيرًا في الدين من زينب. وأتقى لله وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالًا لنفسها في العمل الذي تصدق به، وتقرب به إلى الله تعالى، ما عدا سورة من حدة كانت فيها، تسرع منها الفيئة، قالت: فاستأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع عائشة في مرطها، على الحالة التي دخلت فاطمة عليها وهو بها، فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: يا رسول الله إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، قالت: ثم وقعت بي، فاستطالت علي، وأنا أرقب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأرقب طرفه، هل يأذن لي فيها، قالت: فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكره أن أنتصر، قالت: فلما وقعت بها لم أنشبها حتى أنحيت عليها، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وتبسم إنها "ابنة أبي بكر"[8].
5- الموفقة: وأيضًا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينادي أم المؤمنين بالموفقة لتوفيق الله تعالى لها بكل ما تقول أوتفعل رضي الله تعالى عنها. روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم قال: (من كان له فرطان من أمتي أدخله الله بهما الجنة، فقالت عائشة: فمن كان له فرط من أمتك. قال: ومن كان له فرط يا موفقة.......) [9].
6- أم عبد الله: كنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بأم عبد الله. روت عائشة - رضي الله عنها قولها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أم كل صواحبها لهن كنى، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فاكتني بابنك عبد الله[10] - يعني ابن أختها - فكانت تكنى بأم عبد الله)[11].
وفي رواية ثانية عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لما ولد عبد الله بن الزبير أتيت عائشة - رضي الله عنها، قالت: لما ولد عبد الله بن الزبير أتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم - فتفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوه، وقال: هوعبد الله وأنت أم عبد الله، فما زلت أكنى بها وما ولدت قط) [12].
7- أم المؤمنين: بهذا اللقب لقبت عائشة رضي الله عنها كغيرها من أمهات المؤمنين وبيان ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿ النَّبِيُّ أَولَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وأُولُوالْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَولَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَولِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ﴾[13].
وهذه الألقاب التي لقبت بها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وبالتالي فهي تستحق بجدارة أن تعطى لقبًا جديدًا ألا وهو ملكة العفاف كبرهان محبة من أهل السنة الجماعة واعتذار منها عما لحقها أذى وتقولات من أهل الزيغ والضلال.
ولادة أم لمؤمنين عائشة، ونشأتها:
ولدت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها - في مكة المكرمة قبل الهجرة بسبع سنين تقريباً. وقد تربت - رضي الله عنها - شطرا في بيت الصديق (تسع سنين)، وشطرا آخر في بيت النبوة (تسع سنين أيضًاً).
زواجها من الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -:
بعد وفاة خديجة - رضي الله عنها - لبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو سنتين أوقريبًا من ذلك [14] دون زوجة، ثم جاءته خولة بنت حكيم - رضي الله عنها - فعرضت عليه خطبة عائشة بنت أبي بكر الصديق [15] فعقد عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمكة، وهي بنت ست سنين ودخل بها في المدينة المنورة، وهي بنت تسع سنين.
وقد وصفت أم المؤمنين - رضي الله عنها - زواجها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: تزوجني الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحرث بن خزرج فوعكتُ فتمرق شعري، فوفى جميمة، فأتتني أمي أم رومان وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي، فصرخت بي فأتيتها لا أدري ما تريد بي، فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار وإني لأنهج [16] حتى سكن بعض نفسي ثم أخذت شيئاً من ماء فمسحت به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار في البيت، فقلن على الخير والبركة وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهن فأصلحن من شأني، فلم يرعني إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحى فأسلمتني إليه، وأنا يومئذ بنت تسع سنين)[17].
وقد كانت رضي الله عنها وأرضاها أحب الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كان عليه والصلاة والسلام يصرح بذلك كما ورد في حديث عمروبن العاص - رضي الله عنه - حيث سأله: أي الناس أحب إليك يا رسول الله؟ قال: عائشة. قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها) [18].
قال الإمام الذهبي - رحمه الله تعالى -: (وهذا خبر ثابت على رغم أنوف الروافض، وما كان عليه السلام ليحب إلا طيباً، وقد قال: لوكنت متخذا خليلا من هذه الأمة لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام أفضل)[19].
فأحب أفضل رجل من أمته، وأفضل امرأة من أمته، فمن أبغض حبيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو حري أن يكون بغيضاً إلى الله ورسوله وحبه عليه السلام لعائشة كان أمراً مستفيضاً ألا تراهم - يعني الصحابة رضوان الله عليهم - يتحرون بهداياهم يومها تقرباً إلى مرضاته) [20].
بعض صور معاملة الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم لزوجه عائشة - رضي الله تعالى عنها:
لقد كانت الصديقة عائشة بنت الصديقة - رضي الله عنها - ما تزال صغيرة تحتاج ما تحتاج إليه أمثالها من اللعب والصواحب، فكانت رضوان الله عليها تلعب بألعابها مع صاحباتها في بيت النبوة، فلم يكن الرسول الكريم صاحب الخلق العظيم ينفر من هذا أو يتضايق من بل كان عليه والصلاة السلام يسر بصاحبات الصديقة لأنهن يلعبن معها.
قالت رضي الله عنها وهو يتصف ذلك: (وكانت تأتيني صواحبي فكن ينقمعن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسَرُّ بهن إليّ) [21].
وكان عليه والصلاة والسلام يلاطف زوجته الصغيرة ويلاعبها بما يلائم صغرها وسنها ومن ذلك ما روته عائشة رضي الله عنها: (قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك أوخيبر وفي سهوتها ستر، فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب. فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي ورأى بينهن فرسًا لها جناحان من رقاع. فقال: ما هذا الذي أرى وسطهن؟ قالت: فرس. قال: وما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحان. قال: فرس له جناحان! قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلًا لها أجنحة، قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه)[22].
ومن حسن أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يسترها بردائه حتى تنظر إلى لعب الأحباش لتسليتها، بل كان عليه الصلاة السلام يقف دون كلل أوملل حتى تمل رضي الله عنها وتنصرف.
ومن ذلك ما روته عائشة - رضي الله عنه - (لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بالحراب في المسجد وإنه ليسترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم، ثم يقف من أجلي حتى أكون أنا أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو)[23].
وقد كانت أم المؤمنين -رضي الله عنها - من شدة حبها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وورعها لله تعالى إذا كان هناك أي خصومة من الخصومات التي تحصل بين الأزواج لا تهجر إلا اسمه فقط. ويبين ذلك ما روته الصديقة - رضي الله عنها عندما قال لها الرسول - صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غضبى. قالت: ومن أين تعرف ذلك. قال: أما إذا كنت عني راضية، فإنك تقولين لا ورب محمد. وإذا كنت غضبى، قلت: لا ورب إبراهيم. قالت عائشة. قلت: أجل - والله - يا رسول ما أهجر إلا اسمك) [24].
وكانت رضي الله عنها فرحة مرحة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وباقي زوجاته الكرام ويدل على ذلك ما رواه الهيثمي وغيره في مجمع الزوائد: (أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بحريرة [25]وقد طبختها له، فقلت لسودة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بيني وبينها: كلي - فأبت، فقلت: لتأكلين أو لألطخن وجهك فأبت، فوضعت يدي في الحريرة فطليت وجهها، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع بيده لها، قال لها: الطخي وجهها ففعلت فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -......).[26]
وقد اشتهرت - رضي الله عنها - بالحياء والورع الشديدين حتى أنها كانت تستحي من عمر رضي الله عنه وهو في قبره، ولعل خير مثال يبين ذلك ما روته عائشة - رضي الله عنها - بقولها: كنت أدخل بيتي الذي دفن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي فأضع ثوبي فأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمر معهم، فوالله ما دخلت إلا وأنا مشدودة علي ثيابي حياء من عمر)[27].
وكانت رضي الله عنها كريمة كرمًا مميزًا حتى أنها تنفق آلاف الدراهم دون أن تدخر لنفسها دراهم معدودة للطعام والشراب.
عن أم ذرة قالت: (بعث ابن الزبير إلى عائشة بمال في غرارتين يكون مائة ألف، فدعت بطبق، وهي يومئذ صائمة، فجعلت تقسم في الناس، قال: فلما أمست قالت: يا جارية هاتي فطري, فقالت أم ذرة: يا أم المؤمنين أما استطعت فيما أنفقت أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه؟ فقالت: لا تعنفيني , لوكنت أذكرتني لفعلت)[28].
وصور صبر وورع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ما رواه البخاري في صحيحه عن عائشة، قالت: (دخلت امرأة ابنتان لها تسأل، فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة، فأعطيتها إياها، فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - علينا فأخبرته، فقال: من ابتلي من هذه البنات بشيء كن له ستراً من النار)[29].
روى البخاري أيضاً عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه، قال: دخلت على عائشة - رضي الله عنها، وعليها درع قطر، ثمن خمسة دراهم، فقالت: (ارفع بصرك إلى جاريتي انظر إليها، فإنها تزهى أن تلبسه في البيت، وقد كان لي منهن درع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كانت امرأة تقين بالمدينة إلا أرسلت إلي تستعيره) [30]. ففي هذا الحديث دليل على تواضع أم المؤمنين - رضي الله عنها - فهي تلبس ثياباً تأبى الخدم أن يلبسوه، وأمرها - رضي الله عنها - في التواضع والورع مشهور، وفيه حلم عائشة عن خدمها ورفقتها في المعاتبة، وإيثارها بما عندها مع الحاجة إليه.
وقال عروة بن الزبير رضي الله عنه: (كانت عائشة تقسم سبعين ألفا، وهي ترقع درعها) [31].
أما عن عبادتها - رضي الله عنها - فكانت صوامة قوامة كثيرة القراءة والتسبيح، ومن ذلك ما رواه عروة: (أن عائشة - رضي الله عنها - كانت تصوم الدهر في السفر والحضر) [32]، وعنه قال: كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة أسلم عليها، فغدوت يومًا، فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ: ﴿ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ﴾ [الطور: 27][33] وتدعو وتبكي وترددها، فقمت حتى مللت القيام، فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت، فإذا هي قائمة كما هي تصلي وتبكي)[34].
فهذه التي ذكرت وأوردت لطائف بسيطة أضأت من خلالها بعض جوانب الحياة الخاصة أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - من خلال الآثار، والروايات النبوية الشريفة.
وفما يلي سوف أبين جوانب من حياة أم المؤمنين العامة رضي الله تعالى عنها.
حياة أم المؤمنين العامة
لاشك أن لأم المؤمنين مكانة عظيمة في حياة الأمة، لذلك كان لابد من بيان مكانتها، وأثرها - رضوان الله عليها - في الحياة الإسلامية.
رُب سائل يسأل كيف كان لأم المؤمنين حياة عامة وقد أمرهن الله تعالى مع باقي أمهات المؤمنين أن يقرن في بيوتهن، ولا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وإذا أرادهن أحد المسلمين بفتوى أو حاجة فيجب أن يسألوهن من وراء حجاب، وذلك من قوله سبحانه وتعالى:
﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَولِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وقُلْنَ قَولًا مَعْرُوفًا * وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وأَطِعْنَ اللَّهَ ورَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾[35].
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ولَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا ولَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ واللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ ورَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وقُلُوبِهِنَّ ومَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ولَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ﴾[36].
وللجواب على هذا التساؤل أقوال بأن الحياة العامة التي كانت أم المؤمنين تتفاعل معها يقصد منها المساهمة في بناء المجتمع الإسلامي والتفاعل مع أعضائه ضمن الحدود الشرعية.
فالصديقة بنت الصديق ولدت في بيت إيماني متميز في حمل هموم الدعوة، وشاهدت منذ نعومة أظفارها تفاصيل نشوء الدين الإسلامي وتفاعلت معه بكل ما فيه من آلام وآمال.
قالت رضي الله عنها: (لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، طرفي النهار: بكرة وعشية، ثم بدا لأبي بكر، فابتنى مسجدا بفناء داره، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبوبكر رجلا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين)[37].
وقد كانت أم المؤمنين تشارك في كثير من أحداث الأمة وقد بدأتها بالهجرة إلى المدينة المنورة للحاق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبيها الصديق - رضي الله عنه. فالصديقة بنت الصديق كانت منذ أن فتحت عينيها مساهمة ومشاركة في خدمة هذا الدين ورسوله وأهله لذلك كانت مشاركاتها في كل مناحي الحياة الإسلامية وفق الضوابط الشرعية، حتى الغزوات منها ففي غزوة أحد كانت رضي الله عنها تنقل الماء بالقرب ثم تفرغه في أفواه الصحابة المنهكين من القتال والعطش.
روى البخاري - رحمه الله - عن أنس رضي الله عنه، قال: (لما كان يوم أحد، انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر، وأم سليم وإنهما لمشمرتان، أرى خدم سوقهما تنقزان القرب [38]، وقال غيره: تنقلان القرب على متونهما، ثم تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم) [39].
وما كان لهذه الشخصية العظيمة التي تربت في بيت الصديق والنبوية أن تغيب عن مشهد الأحداث، وخصوصًا إذا كانت تلك الأحداث، مفصلة في تاريخ وحياة الأمة. كيف لا وهي أم للمؤمنين التي يدفعها إلى ذلك الشعور بالواجب الملقى على عاتقها، ثم الإحساس بالقدرة على التأثير والتغيير والإصلاح بين أبنائها المؤمنين إذا دعت الحاجة لذلك.
ففي فتنة عثمان رضي الله عنه رأت رضي الله عنها بوجوب القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه والإصلاح بين المسلمين. ونتيجة هول ما حصل من أمر معركة الجمل التزمت أم المؤمنين بيتها ولم تعد تشارك في أحداث الأمة بشكل مباشر بل عن طريق النصيحة والإرشاد كما فعلت مع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، ذلك أن معاوية - رضي الله عنه - طلب منها النصيحة، فكتبت إليه: (إلى معاوية سلام عليك، أما بعد: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، والسلام عليكم) [40].
وهكذا رأينا أن أم المؤمنين رضي الله عنها لم تدخر وسعا في مناصرة الحق وبيانه، والاهتمام بقضايا الأمة، فكانت تأتيها الوفود من كل بقاع الدولة الإسلامية فتجيبهم عن فتاويهم وأسألتهم بما علمت من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك كانت تنصح الأمراء والولاة والخلفاء وتذكرهم بأيام الله تعالى فهي زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصديقة بنت الصديق أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها.
حياة أم المؤمنين العلمية
اكتسبت أم المؤمنين - رضي الله عنها - علماً غزيراً صافياً من نبع النبوة الذي لا ينضب، فكانت أفقه نساء المسلمين، وأعلمهن بالدين وأصوله وفروعه والأدب، ولا يحدث لها أمر إلا أنشدت فيه شعراً، وكان أكابر الصحابة يسألونها عن الفقه والفرائض، فتجيبهم.
قال عطاء - رضي الله عنه -: (كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأيًا) [41].
ولعل أهم الأسباب التي ساعدت أم المؤمنين على اكتساب هذا العلم ما يلي:
1- الذكاء وقوة الحفظ: امتازت أم المؤمنين - رضي الله عنها - بالذكاء الوقاد، وقوة الحفظ والاستذكار مما ساعدتها - بفضل الله - على حفظ كتاب الله تعالى وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفقههما.
2- علمها بالعربية وفنونها وأشعارها: وقد كانت رضي الله عنها عالمة بالعربية وفروعها وأشعار العرب ونوادرهم، فصيحة اللسان مما ساعدها على فهم القرآن وتفسيره وقد تعلمت من والدها الصديق البلاغة والفصاحة فقد كان الصديق علامة العرب في ذلك.
3- نشأتها في بيت النبوة: نشأت السيدة عائشة - رضي الله عنها في بيت النبوة فشاهدت أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - واطلعت على أخباره فتعلمت حكمته وكل شؤونه وخاصة ما يتعلق بأحكام النساء.
4- حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تعليمها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على تعليمها لما لمسه من ذكاء وفطنة، فكان عليه الصلاة والسلام يحدثها ويفقهها بالدين.
5- نزول الوحي في فراشها: فإنه لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي في فراش امرأة سواها رضي الله تعالى عنها[42].
وقد أخذ عنها كثير من الصحابة، والتابعين وخلق كثير، وروي عنها (2210) أحاديث، ولها آراء فقهية كثيرة، واجتهادات عديدة، وتخرج من مدرسة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عدد كبير من سادة العلماء ومشاهير التابعين.
قال أبوموسى الأشعري - رضي الله عنه: (ما أشكل علينا - أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - حديث قط، فسألنا عائشة إلا وجدنا عندنا منه علماً) [43].
وكان لأم المؤمنين السيدة عائشة - رضي الله تعالى عنها - تلاميذ كثرمن التابعين الذي أخذوا العلم عنها ونشروه في الأمصار الإسلامية، فصاروا أئمة يُقتدى بهم في العلم والعمل ومن أشهر هؤلاء - رضي الله عنهم - عروة بن الزبير[44]، والقاسم بن محمد بن أبي بكر[45]، ومسروق بن الأجدع[46] وعمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية[47] - عليهم رحمة الله تعالى أجمعين.
وكان هؤلاء التلاميذ النجباء يتلقون العلم في غرفة قصية البناء، مبنية من جريد عليه طين من حجارة مرضونة وسقفها من جريد [48]، وكانت رضي الله عنها تضع حجاباً بينها وبين طلاب علمها النبوي الشريف.
وكانت الصديقة رضي الله عنها ذات منهج علمي مميز، ولعل أبرزه ما فيه ما يلي:
1- توثيق المسائل: كانت رضي الله عنها إذ تحرص على تتبع توثيق المسائل بما ورد في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمْرَةَ بنت عبد الرحمن، أنها أخبرته أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة رضي الله عنها أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (من أهدى هديًا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي وقد بعثت بهديي فاكتبي إليّ بأمرك، قالت عمرة:، فقالت عائشة رضي الله عنها: ليس كما قال ابن عباس، "أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه، ثم بعث بها مع أبي، فلم يحرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء أحله الله له حتى نحر الهدي)[49].
2- الورع عن الكلام بغير علم: كانت رضي الله عنها تتورع عن الكلام بغير علم، ومن مثل هذا ما قال شريح بن هانىء قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بابن أبي طالب فسله، فإنه كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناه، فقال جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوماً وليلة للمقيم.[50]
3- الجمع بين الأدلة وفهم مقاصد الشريعة: كانت رضي الله عنها تعتمد على الجمع بين الأدلة وفهم الشريعة وعلوم العربية. ومن ذلك ما رواه عروة عن عائشة - رضي الله عنها - قال قلت: أرأيت قول الله عز وجل ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ [البقرة: 158] قال قلت: فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة: بئسما قلت يا ابن أختي إنها لوكانت على ما اولتها كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لِمَنَاةَ الطاغية التي كانوا يعبدون عند المشلل وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية، فأنزل الله عز وجل: (إن الصفا والمروة من شعائر الله إلى قوله فلا جناح عليه أن يطوف بهما) قالت عائشة ثم قد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بهما، فليس ينبغي لأحد أن يدع الطواف بهما) [51].
4- معرفتها بأدب الحوار: كانت رضوان الله عليها على معرفة عميقة وتامة بآداب الحوار وكل ما يلزم ذلك. كيف لا وهي التي تربت وتعلمت في بيت النبوة، انظر أخي القارئ إلى هذه القصة لترى وتتعلم أدب الحوار من الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - عن عروة بن الزبير قال: كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة وإنا لنسمع ضربها بالسواك تستن - قال - فقلت: يا أبا عبد الرحمن أعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في رجب؟ قال: نعم. فقلت: أي أمتاه ألا تسمعين ما يقول أبوعبد الرحمن؟! قالت: وما يقول؟ قلت: يقول اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في رجب. فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن لعمري ما اعتمر في رجب، وما اعتمر من عمرة إلا وإنه لَمَعَهُ. قال وابن عمر يسمع فما قال لا ولا نعم. سكت.[52]
5- الدقة في نقل الموروث النبوي: وكانت أم المؤمنين - رضي الله عنها - دقيقة جدًا في نقل الموروث النبوي أمانة في النقل، وورعاً وخوفاً من الله سبحانه وتعالى، عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها أخبرته أنها سمعت عائشة وذكر لها أن عبد الله بن عمر يقول إن الميت ليعذب ببكاء الحي. فقالت عائشة يغفر الله لأبي عبد الرحمن أما إنه لم يكذب، ولكنه نسى أو أخطأ إنما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يهودية يبكى عليها أهلها، فقال إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها) [53].
6- اختبار المحدث: وكانت عائشة - رضي الله عنها - إذا لم تكن تعرف الحديث اختبرت قائله، فإن ضبطه قبلته، وهذا الأسلوب اتبعه نقاد الحديث فيما بعد في نقد نقل الرجال. عن عروة بن الزبير قال قالت لي عائشة يا ابن أختي بلغني أن عبد الله بن عمرو مارٌّ بنا إلى الحج فَالْقَهُ فَسَائِلْهُ فإنه قد حمل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - علماً كثيراً - قال - فلقيته فساءلته عن أشياء يذكرها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله لا ينزع العلم من الناس انتزاعاً ولكن يقبض العلماء، فيرفع العلم معهم، ويبقى في الناس رءوساً جهالاً يفتونهم بغير علم فيضلون ويضلون). قال عروة فلما حدثت عائشة بذلك أعظمت ذلك وأنكرته قالت أحدثك أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا، قال عروة حتى إذا كان قابل قالت له: إن ابن عمروقد قدم فالقه ثم فاتحه حتى تسأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم - قال - فلقيته فساءلته فذكره لي نحوما حدثني به في مرته الأولى. قال عروة فلما أخبرتها بذلك قالت ما أحسبه إلا قد صدق أراه لم يزد فيه شيئاً ولم ينقص) [54].
7- عدم الإسراع في الكلام والتأني في سرد الأحاديث: اتبعت أم المؤمنين - رضي الله عنها - أسلوب النبي - صلى الله عليه وسلم - في التحدث والتعليم، فكانت رضي الله عنها تتكلم بتأني دون كلل ولا تكثر في الكلام والتحدث. عن عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت له: ألا يعجبك أبوهريرة جاء فجلس إلى جنب حجرتي يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمعني ذلك وكنت اسبح، فقام قبل أن أقضي سبحتي ولو أدركته لرددت عليه إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يسرد الحديث كسردكم) [55].
وهذا نرى أن الصديقة بنت الصديق ملكة العفاف بحرا زاخرا في الدين، وخزانة حكمة وتشريع، ومدرسة قائمة بذاتها، ونابغة في الذكاء والفصاحة والبلاغة، فكانت رضوان الله عليها عاملًا كبيرًا ذا تأثير عميق في نشر العلم النبوي الشريف.
وفاة أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -:
توفيت رضي الله عنها في خلافة معاوية - رضي الله عنه - ليلة الثلاثاء، السابع عشر من رمضان، سنة ثمان وخمسين من الهجرة، وهي ابنة ست وستين سنة، بعد مرض ألم بها حتى أنها شعرت بأنه مرض الموت، ولهذا أوصت: (أن لا تتبعوا سريري بنار، ولا تجعلوا تحتي قطيفة حمراء، وأن لا يصلي علي إلا أبوهريرة)[56].
ودفنت عليها رحمة الله عليها بالبقيع من ليلتها بعد صلاة الوتر [57]، بحسب وصيتها لعبد الله بن الزبير - رضي الله عنه، حيث قالت له: (ادفني مع صواحبي بالبقيع لا أزكي به أبداً) [58].
والحمد لله رب العالمين..